مكاشفة / اضواء على المسرح العراقي / مقال لادارة مؤسسة فنون الثقافية الناقد د. عباس الجبوري / العراق ...................
مكاشفة ... ____________
أضواء على المسرح العراقي
تذهب الرؤية الآنية لدراسة الواقع الفني للمسرح العراقي والعربي بشكل عام، ضمن المرحلة التي يتأثر بها ويؤثر فيها وفق الأسلوب الفكري الثري والتطور الإجتماعي وتقهقر الفن الملتزم ،ولو أخذنا مقياس النص المسرحي القديم بمقياس المستوى المسرحي الحالي، نجد أننا في حالة انحدار، حتى من حيث الجمهور المسرحي المتجانس سابقاً في تطلعاته والأكثر صعوبة من العصر الحالي، حيث التشوش والشك والفوضى والهبوط ، مع أن الموضوعات المسرحية المطروحة على الخشبة البعض منها ، هي من لب الواقع الاجتماعي في أغلب المسرحيات ،، ولكن نتيجة الإخفاق ، اتجهت الأعمال الفنية تميل إلى المونودراما والممثل المسرحي الواحد ..
وثمة ملاحظة أن الفنانين – وبالتأكيد ليس كلهم – ذو ميول سياسية _ بل في اذهان الكثير منهم ، تجسيد المهنية في حب المسرح ، وعلميته وتنمية الهواية ، وصولا إلى الهوية الإحترافية
، ومن ناحية أخرى، يعنى الكثيرون بالفن المسرحي ويحرصون على تسجيل تعاطفهم مع ترابط الواقع الإجتماعي في التجديد لخلق الدراما ، وهذا الترابط في محله تماما ، لتعزيز دور الفن بتنمية وتحسين الجانب الإنساني للشخصية، أي في نهاية التحليل الإهتمام بحرية الإنسان وقيمه ، على الرغم من ذلك ، ظل تحديد مفهوم الفن للفن محل الكثير من الجدل والسجال على مر السنين ، وخصوصا ما مر به الفنان العراقي في مرحلة الثمانينات من مراحل في القرن الماضي بين شد وجذب وظروف استثنائية وحروب وحصار كان لها حضور في المشهد المسرحي العراقي والثقافي عموماً .
ومن القواعد المؤشرة على المسرح ، الرؤية الذاتية للفن على أنه ذلك التعبير “النقي” الذاتي للرؤية الداخلية الخاصة للفنان.. وتلعب تلك الفكرة على إنعدام الثقة الشعبية تجاه السياسة، على أنها لعبة غير محببه، تدور في أغلب الأحوال حول النفوذ والسيطرة ،كما أنها أيضا، وعن حق، رد فعل للتجربة التاريخية للحكومات التي ارتبطت بالتقليد الفكري العربي والغربي، والتي عمدت إلى إلباس الناتج الفني عباءة سياسية .
ولكن تلك الرؤية الفردية/ الذاتية للفن خاطئة. فلم يكن الفن قط تعبيرا ذاتيا خالصا. فدائما ما تأثر الإنتاج الفني بمختلف الظروف الاقتصادية والإجتماعية والسياسية التي تراوحت ما بين الأسئلة العملية البحتة ، التي تدور في ذهن المؤلف والمخرج والممثل ، إضافة إلى السؤال حول الرقابة الدينية أو رقابة الدولة أو حتى كل الضغوط التي تمثلها التيارات الإيديلوجية السائدة. وبشكل أكثر عمقا، تصبح تلك الفكرة مرفوضة لأن تلك “الذات” التي يسعى الفنان إل التعبير عنها ما هي إلا ناتج اجتماعي أو حاصل جمع تجاربه الشخصية، أي تفاعله مع الآخرين في الوسط الفني، يعني المجتمع... فبما أن الفن كله ماهو إلا تعبير اجتماعي إيحائي ، بما لا يمكن تفاديه، فلم لا يمكنه أن يتعرض لموضوعات قريبة من السياسة بشكل مباشر، جنبا إلى جنب مع موضوعات أخرى اجتماعية مثل الحب والعلاقات والطموح أو العلاقة بالطبيعة والفلسفة وخلافه؟وتبني الأعمال الفنية العظيمة محليا وعالمياً ،إلا أن الحجة الحاسمة لإمكانية وجود فن مرتبط مباشرة بالسياسة ليست ذات طبيعة نظرية، بل متعلقة بالممارسة العملية.
في السياق المجتمعيت تحدد القوالب الدرامية، بما يحتاج تضامن القوى المتناحرة على التجديد الذي بات يفتقد لتقنيات تدفع به نحو الازدهار، ليعود كما كان شكسبيرياً فولتارياً كوميدياً هزلياً تراجيدياً ، يجمع الأطراف الدرامية بأسلوب منسجم ومتلائم مع العصر الحديث، أو بالأحرى ليتجه بنا نحو شاطئ الدراما الواعية المباشرة مع الجمهور المتحفز سينوغرافياً، والذي يتطلع إلى جمالية بصرية تضفي على المسرح التماسك والتميز للاقتراب من الشعر والرواية، وأولية التلاحم بين الأصناف الأدبية الفنية من رواية وشعر وموسيقى ورقص تعبيري، لتقوية الدعامات المسرحية كي تقف بثبات أمام ما نفتقده في المسرح المعاصر، خارج الوضوعية وتجارة الأبتذال
وجر الفنان الرصين إلى سوق النخاسة في التهريج ..!
فمن المعروف عبر القرون وفي العديد من البلدان، أن الكثير الكثير من أقوى الأعمال الفنية، في المجالات المختلفة من الفنون قد استلهمت الأحداث السياسية وتعرضت العروض المسرحية بشكل مباشر لموضوعات سياسية ، مع أو ضد ، في ذلك المسرح الساخر والكوميديا السوداء ومسرح المينودراما . ولكن التاريخ الفني التقليدي والأدب والنقد الثقافي بذل جهدا خارقا في توضيح الحقيقة، وذلك عن طريق الفصل بين “الأعمال العظيمة” وسياقها التاريخي.. والعروض المسرحية الكاشفة
للتوجيه السياسي الفني وبما لا يدع مجالا للشك أن لا تناقض على الإطلاق بين الالتزام السياسي الصريح والإبداع الفني في أعلى مراتبه ..فمن الواضح أن مثل تلك الأعمال تساعد القضية الثورية او التقدمية والدينية من خلال كسب قلوب وعقول الناس حول مواضيع معينة أو من خلال رفع الوعى والروح المعنوية. فعموماً، ينبغي على الفكر الحر ان يدعم ويشجع ويستخدم مثل هذا النوع من الأعمال الفنية، كلما أمكن ...
وقد يبرز تساؤل ...!
هل الفن غير السياسي مدان بطبيعته؟ ولكن هناك وجه آخر لهذه الحجة، لا يقل أهمية عنها. فلو كان من الواجب تشجيع الفن السياسي، لا ينبغي أن يستتبع ذلك فكرة أن الفن غير السياسى هو بالضرورة مدان أو معاب.
فالفن لا ينبغى ولا يمكن أبدا أن يختزل في دعاية أو نقد سياسيين. إذ يعكس الفن ويستجيب لمدى واسع من الاحتياجات والخبرات الإنسانية مثل الميلاد، الموت، الشهادة، الحب، الجنس، النور، أو المطر، المشاعر الخاصة باليأس أو الأمل، منظر التلال والأشجار، خطوط وألوان المبانى، لعب وألم الأطفال، دراما السماء ودراما الشوارع، باختصار كل شيء... وصحيح أنه في التحليل الأخير ترتبط كل هذه الأشياء بشكل أساسي بتناقضات الواقع، ولكن هذا لا يعني أن كل تعبير فني لهذه المواضيع يحتاج لتعبير سياسي واضح وصريح. وطالما أن هذا التعبير الفنى قوي، ومحرك للمشاعر وجميل أو أصيل، وينمي وسائلنا في التواصل (المرئي،اللغوي أو الموسيقي)
فهو بالتأكيد يفيد الانسانية،
ولكن النشاط المسرحي لم يعجز أمام هيمنة هذه الهواجس المتعلقة بالوضع الأمني والسياسي على فكر صناع المسرح في العراق وخارجه، ألا يحمل ذلك خطر تلون التجربة العراقية باللون ذاته على الصعيدين الفني والموضوعاتي ...
وعلى حد قول احم الفنانين :
2003 دُفن مقص الرقابة، ولا أجامل بالقول إن الفنان العراقي له حرية انتقاد الوضع القائم، إنها حرية يمارسها الفنانون والفرق المسرحية رغم قلتها ، فهناك أعمال كثيرة توجه سهام النقد ضد الفساد الإداري والرشوة والمحاصصة والطائفية، بل إن مسرحيات تم عرضها كانت ذات لهجة تحريضية ضد الفساد ومختلف أشكال الانحرافات. لكن في المقابل، لا يمكن إنكار سطوة المحظورات الاجتماعية والدينية التي ما زال يستحضرها الفنان العراقي كرقابة ذاتية..
بما أن فن المسرح يمثل المرآة الحقيقية البارزة لقراءة الواقع المجتمعي والسياسي والاقتصادي لشعب ما..هكذا كان المسرح منذ بواكيره الأولى في العراق، واستمر كاشفاً في مراحل عمره الطويل بشخوصه وصانعيه،
لنظم المجتمع المختلفة..
والمسرح في العراق لا يشذ عن هذه القاعدة أبداً،ولطالما كان دليلاً لقراءة الخارطة السياسية ،كان رواد المسرح وصانعيه، يحث خطاه بجد نحو صناعة عرض مسرحي متقدم فنياً وفي الوقت ذاته حامل لفكرة الحرية التي شغلت المثقفين العراقيين .
والمثال يتكرر بصورة معكوسة في مسرح التسعينيات العراقي وحتى الآن ،حيث الغلبة للمسرحيات الاستهلاكية التجارية الهابطة (في تعبير دقيق عن واقع الحال في عراق اليوم حيث تصير التجارة شطارة ) من أجل الحصول على لقمة العيش...وفي تلك السنوات وما بعدها،كان المسرح في العراق يفرز العديد من الظواهر التي تصلح مقدمات لقراءة الواقع العراقي،ومن تلك الظواهر سيادةالمسرحية الاستهلاكية التجارية(ومسرحية المونودراما) الشخصية الواحدة(ومسرح البكائيات والمناحة)ومسرحيات البانتومايم(المسرحيات الصامتة)والتي نحاول هنا التوقف عندها تحديداً.
لقد كانت المسرحية الصامتة حاضرة في المشهد المسرحي العراقي تلمدرسي والاكاديمي بدرجات متفاوتة بين موسم مسرحي وآخر ،بل أن كبار الفنانين العراقيين قد اشتغلوا على المسرحية الصامتة في فترات متباعدة،
فيما عرفت مجموعة صغيرة جداً من المسرحيين العراقيين بعنايتها بهذا النوع المسرحي الحديث ، النخبة كانت أبرز نتاجاتها في ثمانينيات القرن الماضي،
وتوقف نتاجها بالتدريج مع تفاقم الوضع العراقي بعد حرب الخليج الثانية..ومضت سنوات غابت فيها المسرحية الصامتة عن الحضور حتى عادت للظهور وبقوة هذه المرة، من خلال مجموعة جديدة من الشباب المتعلم
( من خريجي معاهد الفنون الجميلة)،والاكاديميين ..
والإشارة إلى محنة العراق المسرحية الآن من خلال ربط الواقع المعاصر بسجال تاريخي وميثولوجي يمر عبر مراحل مختلفة من تاريخ العراق وحضاراته القديمة.
تواصل بعض المجموعات حماسها في مسرح البانتومايم ،ينبني العرض الصامت على بنية حركية تلعب الدلالة فيها الجانب الأبرز من الإنتاج المشهدي،
لذلك تتفوق الصورة المسرحية في مسرحية البانتومايم على أي عنصر مسرحي آخر من أجل تعويض غياب عنصر الكلمة عن العرض،وتتشكل الصورة المسرحية هنا من خلال جسد الممثل،فالجسد هنا هو مصدر الكود (الشفرة)
الأساس وتعاونه غالباً مجموعة بسيطة ومتقشفة من الإكسسوارات بالإضافة لذلك الحضور القوي واللافت للموسيقى، سواء أكانت موسيقى حية أو مؤلفة..
وبسبب من غياب الكلمة،
مصدر العلانية الأساس في العرض المسرحي،فإن حضور شفرة الجسد تبعد صاحبها عن فخاخ التأويل السلبي ، وبالتالي تتيح للّاعب المسرحي المزيد من الحرية للتعبير عن أفكاره وهواجسه دون خوف من رقيب أو غيره..
مثل الكيروغرافيا، وهي فنون حديثة فعلاً بالنسبة للمشهد المسرحي العراقي ، وكذلك للمسرح العربي والعالمي، على أن دخولها المشهد العراقي لم يكن لضرورات تجريبية بالكامل،
كما ظهرت في فرنسا مثلاً،
فكان أن لجأ مبدعو المسرح العراقي إلى انتهاج فنون تعتمد البناء (السيميائي-
الدلالي) متعدد المعنى للهروب من التأويلات المضادة التي تتسبب في أحيان كثيرة موت الإبداع.
يتبين من ملامح المسارات التي تحدد نشاط المسرح العراقي وفق التسميات الآنفة، عندما يُشخص المؤلف هذه الاتجاهات، كما يقوم بذكرها و تشريحها على النحو الذي يكون طابعه و لونه، بما يشبه عملية جلد الذات ،ويمكننا و الحالة هذه أن نؤشر على بعض النقاط التي أتسم بها واقع الحال:
1 - زوال روح الحماسة للعمل عند المسرحيين ، و تحولها من حالة الشغف الى حالة قضاء اللازم .
2 - تسرب روح الشيخوخة في أجساد و أفكار الكثير من صناع المسرح، بما لا يتناسب و متطلبات العمل المسرحي المتجدد .
3 – شعور الأعضاء بالغبن المادي –التقصير _ في مكافأة عطاءاتهم المسرحية ماديا "قياسا" بما يتقاضاه زملاء لهم في مجال المسرح التجاري، ما أدى الى تهافت البعض منهم على العمل في الدراما الإذاعية والمرئية .
واليوم ،، هل يمكن ان نقول افتراضاً ، تحرر الفن والفنان العراقي من قائمة الممنوعات والعقد والمخاوف يتطلع محبوه إلى فن رصين وجمالي،تكون فيه الفنون الأدائية مرآة حقيقية لنهضة العنقاء العراقية من أوجاعها الدامية ،،الإجابة للمنصفين .. ولكن المواجهة للواقع صعبة ، إذ تفككت الفرق المسرحية الأهلية، وانحسر المسرح الجاد ، ورحل المبدعون إلى شتى الاسقاع لأسباب كثيرة،
يا ترى كيف يكون الاجتهاد في الإجابة ..
لذلك نخلص إلى موضوع اضافة توثيقية متجذرة ومتجددة ، لتأريخ المسرح العراقي، مثلما هو شهادة من أهل بيت هذا المسرح، تدون بداياته و إنطلاقته و محطاته و مكابداته ، وإضاءاته على الحياة ،بما يمثل كشفا و عرضا لأبرز المحطات التي تنقل من بينها المسرح العراقي ..
وبلا شك ، كانت الدراسات و التحليلات و التشخيصات و حتى الملاحظات التي تركها الفنانون الرواد ، هي بحد ذاتها تمثل أيضا"شهادات" مضيئة لمسيرة هذا المسرح بكل تطوراته و تداعياته، هذا المسرح الذي كان في فترة ما، يقف في مقدمة الحركة المسرحية في المنطقة، والدليل، عروضا"مسرحية عراقية، لقيت نجاحا
جماهيرياً كبيراً عند عرضها في البلدان العربية .. انه امتداد المسرح العراقي الذي ابتدأ منذ عصر ما قبل التاريخ في مدن بابل والوركاء ، كما تؤكد اغلب الدراسات الاثارية ، ولم يتوقف الا ليظهر باشكال مختلفة تمارس في الطقوس والاحتفالات والقصخون ومعها المراثي وتمثيلها ، وخاصة في المدن الدينية التي تروى فيها الحكايات التاريخية والشخوص والحوارات بطريقة مسرحية تتخللها الخطابة والاقوال والمآثر وضمن تفاعل ما بين المؤدي والمتلقي " الجمهور" يحقق الانسجام الفني المؤثر والذي يستمد ديمومة تتناسخ مع كل حقبة زمنية لتظهر بصور متجددة... والدعوات مستمرة من الفنانين والادباء ومحبي المسرح الهادف ، للحيلولة دون أن يتحول المسرح الى التهريج والاسفاف والاستخدام السيئ للاحداث واللغة والاداء الرصين ،فأنه سيسهم في سحب المجتمع الى مهاو جديدة تفعل فعلها في اتساع ظواهر مستهجنة لا تقدم لمجتمعنا ما يسهم بالرقي ، لأن واقع المسرح العراقي اليوم يؤشر غيابا حقيقيا للفن الهادف وتحولا سلبياً لتهشيم تاريخ المسرح العريق الذي ابتدأ به، وغياب الممثل المحترف جعل الخشبة المقدسة تفقد هيبتها بعد ان اعتلاها من لا يمت للفن بصلة مهنية واحترافية حقيقية، فالمهمات المسؤولة بلمسات جادة من المعنيين والمتابعين بإصرار، يتحول الجهد الى المسرح ليعيد مجد مسيرة تركت بصمتها عربيا وعالميا وتنتظر من يكمل الخطوات بعناية ورعاية ووعي ثقافي ناجز .
المسرحي د.عباس الجبوري //
إدارة مؤسسة فنون الثقافية
تعليقات
إرسال تعليق